فصل: ذهاب الجمهور ـ منهم الأئمة الثلاثة ـ إلى أنه لا يحد للزنى ولا للسرقة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقال البيهقي‏:‏ ويقال إنه غير الخراساني، وأنه مجهول‏.‏ اهـ‏.‏ وقد علمت فيما قدمنا عن أبي داود، أنه رواه من وجه آخر موقوفًا على عمرو بن شعيبا وقال ابن حجر‏:‏ إن وقفه هو الراجح‏.‏

وذهب الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأبو حنيفة‏:‏ إلى أنه لا يحرق رحله، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال، بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالًا فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيخمسه، ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال‏:‏ يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة، فقال‏:‏ ‏"‏أسمعت بلالًا ينادي ثلاثًا‏"‏، قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏"‏فما منعك أن تجيء به‏؟‏‏"‏ فاعتذر إليه، فقال‏:‏ كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك، هذا لفظ أبي داود، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري، وأخرجه الحاكم وصححه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ قد روي في غير حديث عن الغال، ولم يأمر بحرق متاعه‏.‏ فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى، وهم أكثر العلماء‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ‏:‏ الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة‏:‏ هو ما اختاره ابن القيم، قال في ‏(‏زاد المعاد‏)‏ بعد أن ذكر الخلاف المذكور في المسألة‏:‏ والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة، فإنه حرق وترك، وكذلك خلفاؤه من بعده، ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة، فليس بحد‏.‏ ولا منسوخ‏.‏ وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام‏.‏ اهـ‏.‏

وإنما قلنا‏:‏ إن هذا القول أرجح عندنا‏.‏ لأن الجمع واجب إذا أمكن، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة، كما علم في الأصول، والعلم عند الله تعالى‏.‏

أما لو سرق واحد من الغانمين من الغنيمة قبل القسم، أو وطىء جارية منها قبل القسم، فقال مالك وجل أصحابه‏:‏ يحد حد الزنى والسرقة في ذلك، لأن تقرر الملك لا يكون بإحراز الغنيمة‏.‏ بل بالقسم‏.‏

ذهاب الجمهور ـ منهم الأئمة الثلاثة ـ إلى أنه لا يحد للزنى ولا للسرقة

لأن استحقاقه بعض الغنيمة شبهة تدرأ عنه الحد‏.‏ وبعض من قال بهذا يقول‏:‏ إن ولدت فالولد حر يلحق نسبه به، وهو قول أحمد‏.‏ والشافعي، خلافًا لأبي حنيفة‏.‏ وفرق بعض المالكية بين السرقة والزنى، فقال‏:‏ لا يحد للزنى، ويقطع إن سرق أكثر من نصيبه بثلاثة دراهم‏.‏

وبهذا قال عبد الملك من المالكية، كما نقله عنه ابن المواز‏.‏

واختلف العلماء فيما إذا مات أحد المجاهدين قبل قسم الغنيمة، هل يورث عنه نصيبه‏؟‏ فقال مالك في أشهر الأقوال‏:‏ والشافعي‏:‏ إن حضر القتال‏:‏ ورث عنه نصيبه وإن مات قبل إحراز الغنيمة، وإن لم يحضر القتال فلا سهم له‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام خاصة‏.‏ أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له‏.‏ لأن ملك المسلمين لا يتم عليها عنده إلا بذلك‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏

إن مات بعد ما يدرب قاصدًا في سبيل الله ـ قبل أو بعد ـ أسهم له، وقال الإمام أحمد‏:‏ إن مات قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له، لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها، وسواء مات حال القتال أو قبله، وإن مات بعد إحراز الغنيمة فسهمه لورثته‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ‏:‏ وهذا أظهر الأقوال عندي، والله تعالى أعلم‏.‏

ولا يخفى أن مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة مشكل، لأن حكمه بحد الزاني والسارق‏:‏ يدل على أنه لا شبهة للغانمين في الغنيمة قبل القسم، وحكمه بإرث نصيب من مات قبل إحراز الغنيمة إن حضر القتال‏.‏ يدل على تقرر الملك بمجرد حضور القتال، وهو كما ترى، والعلم عند الله تعالى‏.‏

المسألة الثامنة‏:‏ أصح الأقوال دليلًا‏:‏ أنه لا يقسم للنساء والصبيان الذين لا قدرة لهم على القتال، وما جرى مجراهم، ولكن يرضخ لهم من الغنيمة باجتهاد الإمام، ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه‏:‏ عن ابن عباس، لما سأله نجدة عن خمس خلال‏.‏

منها‏:‏ هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء‏؟‏ وهل كان يضرب لهم بسهم‏؟‏ فيكتب إليه ابن عباس‏:‏ كتبت تسألي‏:‏ هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن‏.‏ الحديث‏.‏

وهو صريح فيما ذكرنا، فيجب حمل ما ورد في غيره من أن النساء يسهم لهن على الرضخ المذكور في هذا الحديث المعبر عنه بقوله‏:‏ ‏"‏يحذين من الغنيمة‏"‏‏.‏ قال النووي‏:‏ قوله ‏"‏يحذين‏"‏ هو بضم الياء وإسكان الحاء المهملة، وفتح الذال المعجمة، أي يعطين تلك العطية، وتسمى الرضخ، وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ، ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة، والثوري، والليث، والشافعي، وجماهير العلماء‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ تستحق السهم إن كانت تقاتل، أو تداوي الجرحى، وقال مالك‏:‏ لا رضخ لها، وهذان المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح اهـ‏.‏ * * *

المسألة التاسعة‏:‏ اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير، لا من المغانم‏.‏

ودليل ذلك‏:‏ حديث مالك بن أوس بن الحدثان المتفق عليه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال‏:‏ دخلت على عمر، فأتاه حاجبه يرفأ، فقال‏:‏ هل لك في عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فأذن لهم، ثم قال‏:‏ هل لك في علي، وعباس‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال عباس‏:‏ يا أمير المؤمنين أقض بيني وبين هذا، قال‏:‏ أنشدكم بالله، الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏لا نورث، ما تركنا صدقة‏"‏ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه‏؟‏ فقال‏:‏ الرهط، قد قال ذلك، فأقبل على عليِّ، وعباس، فقال‏:‏ هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك‏؟‏ قالا‏:‏ قد قال ذلك، قال عمر‏:‏ فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدًا غيره، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموه، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته‏.‏ أنشدكم بالله، هل تعلمون ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، ثم قال لعلي، وعباس‏:‏ أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك‏؟‏ قالا‏:‏ نعم، قال عمر‏:‏ فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر‏:‏ أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توفى الله أبا بكر فقلت‏:‏ أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، ثم جئتماني، وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع‏:‏ جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت‏:‏ إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك‏:‏ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما فادفعاها إلى اهـ‏.‏

هذا لفظ البخاري في ‏(‏الصحيح‏)‏ في بعض رواياته، ومحل الشاهد من الحديث تصريح عمر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله نفقة سنته من فيء بني النضير، وتصديق الجماعة المذكورة له في ذلك، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة بألفاظ متقاربة المعنى‏.‏ وهو نص في أن نفقة أهله صلى الله عليه وسلم كانت في الفيء، لا من الغنيمة‏.‏

ويدل له أيضًا الحديث المتقدم ‏"‏مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم‏"‏ فإن قيل ما وجه الجمع بين ما ذكرتم، وبين ما أخرجه أبو داود من طريق أسامة بن زيد عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال‏:‏ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا‏:‏ ‏"‏بنو النضير، وخيبر، وفدك‏.‏ فأما بنو النضير فكانت حبسًا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسًا لأبناء السبيل‏.‏ وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء‏:‏ جزئين بين المسلمين، وجزءًا نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين‏"‏‏.‏

فالجواب ـ والله تعالى أعلم ـ أنه لا تعارض بين الروايتين، لأن ‏"‏فدك‏"‏ ونصيبه صلى الله عليه وسلم من ‏"‏خيبر‏"‏ كلاهما فيء كما قدمنا عليه الأدلة الواضحة، وكذلك ‏"‏النضير‏"‏، فالجميع فيء كما تقدم إيضاحه، فحكم الكل واحد‏.‏

وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت‏:‏ وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال‏:‏ لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ‏.‏

فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي، وعباس، وأما خيبر، وفدك فأمسكهما عمر، وقال‏:‏ هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال‏:‏ فهما على ذلك إلى اليوم‏.‏

هذا لفظ البخاري في صحيحه‏.‏

وقال ابن حجر في ‏(‏الفتح‏)‏‏:‏ وقد ظهر بهذا أن صدقة النَّبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير‏.‏ وأما سهمه من خيبر، وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده، وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النَّبي صلى الله عليه وسلم مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر، وفدك، وما فضل من ذلك جعله في المصالح، وعمل عمر بعده بذلك، فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم، قال‏:‏ جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان، فقال‏:‏ ‏"‏إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم، ويزوج أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، وكانت كذلك في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، ثم أقطعها مروان‏"‏، يعني في أيام عثمان‏.‏

قال الخطابي‏:‏ إنما أقطع عثمان ‏"‏فدك‏"‏ لمروان، لأنه تأول أن الذي يختص بالنَّبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عثمان عنها بأمواله، فوصل بها بعض قرابته، ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الثابت في الصحيح بلفظ‏:‏ ‏"‏ما تركت بَعْدَ نَفَقَةِ نسائي، وَمَؤُونَةِ عاملي فهو صدقة‏"‏‏.‏

فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما، اهـ‏.‏

واعلم أن فيء ‏"‏بني النضير‏"‏ تدخل فيه أموال ‏"‏مخيريق‏"‏ رضي الله عنه، وكان يهوديًا من ‏"‏بني قينقاع‏"‏ مقيمًا في بني النضير، فلما خرج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، قال لليهود‏:‏ ألا تنصرون محمدًا صلى الله عليه وسلم، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم، فقالوا‏:‏ اليوم يوم السبت، فقال‏:‏ لا سبت، وأخذ سيفه ومضى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فلما حضره الموت قال‏:‏ أموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء، وكان له سبع حوائط ببني النضير وهي ‏"‏المثيب‏"‏، ‏"‏والصائفة‏"‏، ‏"‏والدلال‏"‏، ‏"‏وحسنى‏"‏، ‏"‏وبرقة‏"‏، ‏"‏والأعواف‏"‏، ‏"‏ومشربة أم إبراهيم‏"‏‏.‏

وفي رواية الزبير بن بكار ‏"‏الميثر‏"‏ بدل ‏"‏الميثب‏"‏، ‏"‏والمعوان‏"‏ عوض ‏"‏الأعواف‏"‏ وزاد ‏"‏مشربة أم إبراهيم‏"‏ الذي يقال له ‏"‏مهروز‏"‏‏.‏

وسميت ‏"‏مشربة أم إبراهيم‏"‏ لأنها كانت تسكنها ‏"‏مارية‏"‏ قاله بعض أصحاب المغازي، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي ‏"‏مخيريق‏"‏ المذكور من شهداء أحد، حيث قال في سردهم‏:‏

وذو الوصايا الجم للبشير وهو مخيريق بني النضير

ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام التي لها تعلق بهذه الآية الكريمة، خوف الإطالة المملة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ‏}‏‏.‏

أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو، وذكر الله كثيرًا مشيرًا إلى أن ذلك سبب للفلاح‏.‏ والأمر بالشيء نهى عن ضده، أو مستلزم للنهي عن ضده، كما علم في الأصول، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات‏.‏ أمام الكفار، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وبئس المصير‏}‏، وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات‏.‏ وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال‏.‏ ولا سيما في وقت الضيق، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد‏.‏

قال عنترة في معلقته‏:‏ ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تفطر من دمي

وقال الآخر‏:‏

ذكرتك والخطى يخطر بيننا وقد نهلت فينا المثقفة السمر

تنبيه

قال بعض العلماء‏:‏ كل ‏"‏لعل‏"‏ في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء‏:‏ ‏{‏وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ فهي بمعنى ‏"‏كأنكم تخلدون‏"‏‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ‏:‏ لفظة ‏"‏لعل‏"‏ قد ترد في كلام العرب مرادًا بها التعليل، ومنه قوله‏:‏ فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق

فقوله ‏"‏لعلنا نكف‏"‏ يعني ‏"‏لأجل أن نكف‏"‏،

وكونها للتعليل لا ينافي ‏"‏معنى الترجي‏"‏، لأن وجود المعلول يرجى عند وجود علته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبينًا أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضًا في مواضع أخر، كقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏، ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ أي قوتكم‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ نصركم‏.‏ كما تقول العرب الريح لفلان إذا كان غالبًا، ومنه قوله‏:‏ إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون

واسم ‏"‏إن‏"‏ ضمير الشأن‏.‏

وقال صاحب الكشاف‏:‏ الريح‏:‏ الدولة، شبهت في نفوذ أمرها، وتمشيه بالريح في هبوبها، فقيل‏:‏ هبت رياح فلان، إذا دالت له الدولة، ونفذ أمره، ومنه قوله‏:‏

يا صاحبي ألا لا حي بالوادي إلا عبيد قعود بني أذوادي

أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإن الريح للعادي

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان غر الكفار، وخدعهم، وقال لهم‏:‏ لا غالب لكم وأنا جار لكم‏.‏

وذكر المفسرون‏:‏ أنه تمثل لهم في صورة ‏"‏سراقة بن مالك بن جعشم‏"‏ سيد بني مدلج بن بكر بن كنانة، وقال لهم ما ذكر الله عنه، وأنه مجيرهم من بني كنانة، وكانت بينهم عداوة، ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ‏}‏، عندما رأى الملائكة وقال لهم‏:‏ ‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ‏}‏، فكان حاصل أمره أنه غرهم، وخدعهم حتى أوردهم الهلاك، ثم تبرأ منهم‏.‏

وهذه هي عادة الشيطان مع الإنسان كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏

{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا‏}‏، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏ سرنا وساروا إلى بدر لحينهم لو يعلمون يقين الأمر ما ساروا

دلاهم بغرور ثم أسلمهم إن الخبيث لمن ولاه غرار

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه‏.‏ وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ في محل رفع بالعطف على اسم الجلالة، أي حسبك الله، وحسبك أيضًا من اتبعك من المؤمنين‏.‏

وممن قال بهذا‏.‏ والحسن، واختاره النحاس وغيره، كما نقله القرطبي، وقال بعض العلماء‏:‏ هو في محل خفض بالعطف على الضمير الذي هو الكاف في قوله‏:‏ ‏{‏حَسْبَكَ‏}‏ وعليه، فالمعنى حسبك الله أي كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين، وبهذا قال الشعبي، وابن زيد وغيرهما، وصدر به صاحب الكشاف، واقتصر عليه ابن كثير وغيره، والآيات القرآنية تدل على تعيين الوجه الأخير، وأن المعنى كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين لدلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏، فجعل الإيتاء لله ورسوله، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ‏}‏، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل‏:‏ وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعل الحسب مختصًا به وقال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏‏؟‏ فخص الكفاية التي هي الحسب به وحده، وتمدح تعالى بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده‏.‏

وقد أثنى سبحانه وتعالى على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ‏}‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات، فإن قيل‏:‏ هذا الوجه الذي دل عليه القرآن، فيه أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، ضعفه غير واحد من علماء العربية، قال ابن مالك في ‏(‏الخلاصة‏)‏‏:‏ وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازمًا قد جعلا

فالجواب من أربعة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أن جماعة من علماء العربية صححوا جواز العطف من غير إعادة الخافض، قال ابن مالك في ‏(‏الخلاصة‏)‏‏:‏

وليس عندي لازمًا إذ قد أتى في النظم والنثر الصحيح مثبتا

وقد قدمنا في ‏"‏سورة النساء‏"‏ في الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ‏}‏ شواهده العربية، ودلالة قراءة حمزة عليه، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ‏}‏‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه من العطف على المحل، لأن الكاف مخفوض في محل نصب، إذ معنى ‏{‏حَسْبَكَ‏}‏ يكفيك، قال في ‏(‏الخلاصة‏)‏‏:‏ وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن

الوجه الثالث‏:‏ نصبه بكونه مفعولًا معه، على تقدير ضعف وجه العطف، كما قال في ‏(‏الخلاصة‏)‏‏:‏ والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق والنصب مختار لدى ضعف النسق

الوجه الرابع‏:‏ أن يكون ‏{‏وَمِنْ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف، أي ‏{‏وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فحسبهم الله أيضًا، فيكون من عطف الجملة، والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

لم يعين تعالى في هذه الآية الكريمة المراد بأولي الأرحام‏.‏ واختلف العلماء في هذه الآية، هل جاء في القرآن ما يبين المراد منها أو لا‏.‏ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها بينتها آيات المواريث‏.‏ كما قدمنا نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا‏}‏ ‏.‏

قالوا‏:‏ فلا إرث لأحد من أولي الأرحام غير من عينت لهم حقوقهم في آيات المواريث‏.‏

وممن قال بهذا زيد بن ثابت، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأبو ثور، وداود، وابن جرير وغيرهم‏.‏ وقالوا‏:‏ الباقي عن نصيب الورثة المنصوص على إرثهم لبيت مال المسلمين، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث‏"‏ رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه أيضًا الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وحسنه الترمذي وابن حجر، ولا يضعف بأن في إسناده إسماعيل بن عياش، لما قدمنا مرارًا أن روايته عن الشاميين قوية، وشيخه في حديث أبي أمامة هذا شرحبيل بن مسلم، وهو شامي ثقة، وقد صرح في روايته بالتحديث‏.‏

وقال فيه ابن حجر في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ صدوق فيه لين، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي صححه الترمذي، من رواية عمرو بن خارجة، وحسنه الترمذي، وابن حجر من رواية أبي أمامة‏:‏ ‏"‏إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه‏"‏ يدل بعمومه على أنه لم يبق في التركة حق لغير من عينت لهم أنصباؤهم في آيات المواريث‏.‏

وقد قال بعض أهل هذا القول‏:‏ المراد بذوي الأرحام العصبة خاصة، قالوا‏:‏ ومنه قول العرب وصلتك رحم، يعنون قرابة الأب دون قرابة الأم، ومنه قول قتيلة بن الحارث، أو بنت النضر بنت الحارث‏:‏ ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق

فأطلقت الأرحام على قرابة بني أبيه، والأظهر على القول بعدم التوريث، أن المراد بذوي الأرحام القرباء، الذين بينت حقوقهم بالنص مطلقًا‏.‏ واحتج أيضًا من قال‏:‏ لا يرث ذوو الأرحام بما روي عن عطاء بن يسار‏.‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير في ميراث العمة والخالة فأنزل عليه ‏"‏لا ميراث لهما‏"‏ أخرجه أبو داود، في المراسيل والدارقطني، والبيهقي، من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء، مرسلًا، وأخرجه النسائي في ‏(‏سننه‏)‏، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، من مرسل زيد بن أسلم، ليس فيه ذكر عطاء، ورد المخالف هذا بأنه مرسل‏.‏

وأجيب بأن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد‏.‏ الاحتجاج بالمرسل، وبأنه رواه البيهقي، والحاكم، والطبراني، موصولًا من حديث أبي سعيد، وما ذكره البيهقي من وصله من طريقين‏.‏

إحداهما‏:‏ من رواية ضرار بن صرد أبي نعيم‏.‏

والثانية‏:‏ من رواية شريك بن أبي نمر، عن الحارث بن عبد، مرفوعًا‏.‏

وقال محشية، صاحب ‏(‏الجوهر النقي‏)‏ في ضرار المذكور‏:‏ إنه متروك‏.‏ وعزا ذلك للنسائي، وعزا تكذيبه ليحيى بن معين‏.‏

وقال في ابن أبي نمر‏:‏ فيه كلام يسير‏.‏ وفي الحارث بن عبد‏:‏ أنه لا يعرفه، ولا ذكر له إلا عند الحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ في هذا الحديث‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ‏:‏ ما ذكره من أن ضرار بن صرد متروك غير صحيح‏.‏ لأنه صدوق له بعض أوهام لا توجب تركه‏.‏

وقال فيه ابن حجر في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ صدوق له أوهام وخطأ، ورمي بالتشيع، وكان عارفًا بالفرائض‏.‏

وأما ابن أبي نمر‏:‏ فهو من رجال البخاري، ومسلم‏.‏

وأما إسناد الحاكم‏:‏ فقال فيه الشوكاني، في ‏(‏نيل الأوطار‏)‏‏:‏ إنه ضعيف وقال في إسناد الطبراني‏:‏ فيه محمد بن الحارث المخزومي‏.‏ قلت‏:‏ قال فيه ابن حجر في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ مقبول، وقال الشوكاني أيضًا، قالوا‏:‏ وصله ـ أيضًا ـ الطبراني من حديث أبي هريرة‏.‏

ويجاب‏:‏ بأنه ضعفه بمسعدة بن اليسع الباهلي‏.‏

قالوا‏:‏ وصله الحاكم أيضًا من حديث ابن عمر، وصححه‏.‏

ويجاب‏:‏ بأن في إسناده عبد الله بن جعفر المدني، وهو ضعيف‏.‏

قالوا‏:‏ روى له الحاكم شاهدًا من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن الحارث بن عبد، مرفوعًا‏.‏

ويجاب‏:‏ بأن في إسناده سليمان بن داود الشاذكوني، وهو متروك‏.‏

قالوا‏:‏ أخرجه الدارقطني من وجه آخر عن شريك‏.‏

ويجاب‏:‏ بأنه مرسل‏.‏ اهـ‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ‏:‏ وهذه الطرق الموصولة والمرسلة يشد بعضها بعضًا، فيصلح مجموعها للاحتجاج، ولا سيما أن منها ما صححه بعض العلماء، كالطريق التي صححها الحاكم، وتضعيفها بعبد الله بن جعفر المدني‏:‏ فيه أنه من رجال مسلم، وأخرج له البخاري تعليقًا، وقال فيه ابن حجر في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ ليس به بأس‏.‏ اهـ‏.‏

واحتجوا أيضًا بما رواه مالك في ‏(‏الموطأ‏)‏، والبيهقي، عن محمد بن أبي بكر بن حزم، عن عبد الرحمن بن حنظلة الزرقي‏:‏ أنه أخبره عن مولى لقريش كان قديمًا يقال له ابن موسى، أنه قال‏:‏ كنت جالسًا عند عمر بن الخطاب، فلما صلى الظهر، قال‏:‏ ‏"‏يا يرفأ‏"‏ هلم ذلك الكتاب لكتاب كتبه في شأن العمة، فنسأل عنها، ونستخبر عنها فأتاه به ‏"‏يرفأ‏"‏ فدعا بتور أو قدح فيه ماء، فمحا ذلك الكتاب فيه، ثم قال‏:‏ لو رَضِيَكِ الله وَارِثَةً أَقَرَّكِ، لَوْ رَضِيَكِ الله أَقَرَّكِ‏.‏

وقال مالك في ‏(‏الموطأ‏)‏ عن محمد بن أبي بكر بن حزم‏:‏ أنه سمع أباه‏:‏ كثيرًا يقول‏:‏ كان عمر بن الخطاب يقول‏:‏ عجبًا للعمة ترث وَلاَ تورث، والجميع فيه مقال، وقال جماعة من أهل العلم‏:‏ لا بيان للآية من القرآن، بل هي باقية على عمومها، فأوجبوا الميراث لذوي الأرحام‏.‏

وضابطهم‏:‏ أنهم الأقارب الذين لا فرض لهم ولا تعصيب‏.‏

وهم أحد عشر حيزًا‏:‏

1 ــ أولاد البنات‏.‏

2 ــ وأولاد الأخوات‏.‏

3 ــ وبنات الإخوة‏.‏

4 ــ وأولاد الأخوة من الأم‏.‏

5 ــ والعمات من جميع الجهات‏.‏

6 ــ والعم من الأم‏.‏

7 ــ والأخوال‏.‏

8 ــ والخالات‏.‏

9 ــ وبنات الأعمام‏.‏

01 ـ والجد أبو الأم‏.‏

11 ـ وكل جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد‏.‏

فهؤلاء، ومن أدلى لهم يسمون ذوي الأرحام‏.‏ وممن قال بتوريثهم‏.‏ إذا لم يوجد وارث بفرض أو تعصيب ـ إلا الزوج والزوجة ـ الإمام أحمد‏.‏

ويروى هذا القول، عن عمر، وعلي، وعبد الله، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء ـ رضي الله عنهم ـ وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، وعلقمة، ومسروق، وأهل الكوفة، وغيرهم‏.‏

نقله ابن قدامة في ‏(‏المغني‏)‏، واحتجوا بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ وعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ‏}‏، ومن السنة بحديث المقدام بن معد يكرب، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏"‏من ترك مالًا فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه‏.‏ وأرث، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه‏"‏ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححاه، وحسنه أبو زرعة الرازي، وأعله البيهقي بالاضطراب، ونقل عن يحيى بن معين، أنه كان يقول‏:‏ ليس فيه حديث قوي، قاله في ‏(‏نيل الأوطار‏)‏‏.‏

واحتجوا أيضًا بما رواه أبو أمامة بن سهل، أن رجلًا رمى رجلًا بسهم فقتله، وليس له وارث إلا خال، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر، فكتب إليه عمر‏:‏ إن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له‏"‏ رواه أحمد، وابن ماجه، وروى الترمذي المرفوع منه، وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏

قال الشَّوكاني ـ رحمه الله ـ‏:‏ وفي الباب عن عائشة عند الترمذي والنسائي، والدارقطني، من رواية طاوس، عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الخال وارث من لا وارث له‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حسن غريب، وأعله النَّسائي بالاضطراب، ورجح الدَّارقطني، والبيهقي، وقفه‏.‏

قال التّرمذي‏:‏ وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه عائشة‏.‏

وقال البزار‏:‏ أحسن إسناد فيه حديث أبي أُمامة بن سهل، وأخرجه عبد الرزاق، عن رجل من أهل المدينة، والعقيلي وابن عساكر، عن أبي الدرداء، وابن النجار، عن أبي هريرة، كلها مرفوعة‏.‏ اهـ‏.‏